الخميس، 8 سبتمبر 2022

في شأن الثورة والمستقبل



كنت في السنوات العديدة السابقة وحتى فيما بعد إندلاع أحداث ثورة ديسمبر المجيدة (فهي محطة مهمة ومفصلية في مسار الثورة السودانية المندلعة منذ أكثر من قرن من الزمان، أكثر من نصفها هي مد وسعي للتقدم والإنعتاق الحر) أمر بحالات إكتئاب مظلمة وقميئة أو كما وصفه تشرشل بـ "الكلب الأسود"، وقد كان خير مؤازر ومذكرلي هو الصديق العزيز "عادل بدر" الذي كان لا يفتأ يذكرني بأستاذنا الراحل العظيم/ تاج السر مكي وبأنه كان رجل لا يأتيه اليأس ولا القنوط لا من خلفه ولا من أمامه وهي - في تقديري - حصانة لا يستطيع إكتسابها الجميع بنفس القوة والثبات اللذان تمتع بهما عزيزنا الراحل/ السر، ويسهب الصديق "عادل" بأن أستاذنا كان شخصاً متفائلاً وواثقاً من مقدرات وأصالة معدن الشعب السوداني. وبالتأكيد فإن هذه الروح والقناعة في تقديري لا تًبدُر إلا من شخص عالي الذكاء، عميق التفكير والتدبر والإستقراء وعظيم المشاعر الإنسانية النبيلة، وكلها إجتمعت في راحلنا المقيم/  السر وفي رجال عظماء آخرين أذكر منهم أعمامنا وأساتذتنا صالح عركي صالح، محمد إبراهيم عبده (كبج)، فيصل مسلم ، محمد علي محسي وحسبو إبراهيم وآخرين ممن لم تسع الذاكرة لذكرهم، رحم الله من رحل منهم ومتع من على قيد الحياة بالصحة والعافية لمواصلة مشوار المد الإنساني العظيم.

هذه المقدمة المغزى وراءها أن تكون خلفية للحديث عن واقع حال الثورة السودانية ومستقبلها. وهو مستقبل واعد رغم ما يحف الطريق من عقبات وضباب، فالتاريخ يحكي ويؤكد مقولة الشاعر التونسي العظيم أبوالقاسم الشابي بأن:

إِذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياةَ       فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ

ولا بُدَّ للَّيْلِ أنْ ينجلي              ولا بُدَّ للقيدِ أن يَنْكَسِرْ

ومَن لم يعانقْهُ شَوْقُ الحياةِ      تَبَخَّرَ في جَوِّها واندَثَرْ

فويلٌ لمَنْ لم تَشُقْهُ الحياةُ        من صَفْعَةِ العَدَمِ المنتصرْ

كذلك قالتْ ليَ الكائناتُ           وحدَّثَني روحُها المُستَتِرْ

ودَمْدَمَتِ الرِّيحُ بَيْنَ الفِجاجِ     وفوقَ الجبالِ وتحتَ الشَّجرْ

إِذا مَا طَمحْتُ إلى غايةٍ          رَكِبتُ المنى ونَسيتُ الحَذرْ

ولم أتجنَّبْ وُعورَ الشِّعابِ       ولا كُبَّةَ اللَّهَبِ المُستَعِرْ

ومن لا يحبُّ صُعودَ الجبالِ      يَعِشْ أبَدَ الدَّهرِ بَيْنَ الحُفَرْ

******

وأُعْلِنَ في الكونِ أنَّ الطّموحَ   لهيبُ الحَيَاةِ ورُوحُ الظَّفَرْ

إِذا طَمَحَتْ للحَياةِ النُّفوسُ    فلا بُدَّ أنْ يستجيبَ القَدَرْ

وعطفاً على هذه الأبيات المجيدة وبنظرة عامة نجد أن أعداد من يلتفون حول الثورة اليوم أضعاف الأعداد في كل تاريخنا النضالي وإن أهم عنصر وهو تنامي الوعي قد توطد عبر توسع منصات الوعي الشعبي أكثر من أي وقت مضى .

وفي سبيل تحقيق أهداف وتطلعات الشعب السوداني في بناء دولة الحرية والسلام والعدالة والمؤسسات قبل كل ذلك، فإننا نحتاج إلى التأسيس السليم والصحيح لتنظيمات سياسية ضاربة الجذور في المجتمع وعلى أسس تتنافى كلياً وأسس التنظيمات التي ولدت طوال تاريخنا السياسي الحديث. وذلك لا يتأتى إلا بعزيمة وإيمان كوادر نوعية شديدة الوفاء لقضية الوطن، وتتمتع بإخلاق ومقدرات وآفاق عالية للغاية.

أخيراً، إن ما حدث في أكتوبر 2021 والذي أطلق عليه "القحاته" بالإنقلاب، إنما هو إنقلاب ضد القحاته.

أما من وجهة نظرنا نحن كثوار فإن ما حدث ليس سوى فصل جديد من فصول الإنقلاب على الثورة السودانية الذي قادته "قحت" (التي تمثل الوكيل الحصري لجميع المشاريع المعادية لمصالح الشعب السوداني) نفسها بإتفاقها الهزيل مع لجنة البشير الأمنية والتي وراءها كانت وما زالت دول مثلث المحور الخليجي. إن أهم نقطة يجب الوقوف عندها ومن ثم الإنطلاق مره أخرى هي أن جميع التنظيمات السياسية الموجودة في الساحة السودانية الآن بإستثناء "حركة جيش تحرير السودان – جناح عبدالواحد محمد أحمد النور" غير مؤهلة للمضي بالسودان قيد أُنمله. بهذا الشكل وإنطلاقاً من هذا الصياغ يجب التعامل مع المشهد السياسي السوداني حتى ننطلق من رؤية وأساس سليم ودقيق.

محمد عمر محمدالخير

في الجمعة 09 سبتمبر 2022م

 

 

  

الأربعاء، 25 مايو 2022

وداعاً العملاق محمد إبراهيم عبده كبج (فارس الحوبه)


 

تحتم المسؤولية الأخلاقية والإنسانية أن نكتب في محاولة متواضعة – بلا شك – لإيفاء الراحل العملاق أستاذنا محمد إبراهيم عبده الشهير بـ (كبج) جزء من حقه الكبير على شعبنا.

ولو كان في سوداننا إعلاء لقيم الوفاء والشكر والتقدير لكان أمثال العظيم كبج تغني تمجيداً لهم الفنانات والحكامات ويفخرن به شاعرات الحماسة كما في تراثنا التليد، ولكنا سمعنا أغنيات وكلمات من شاكلة "كبج ي فارس الحوبه" وغيرها. ولكن للأسف ما زال نكران الجميل وغياب قيم الوفاء والتقدير بعيدة بقدر كبير عن مجتمعاتنا التي لا تستطيع التمييز بين أبناءها الذين يستحقون الإحتفاء والوفاء والتكريم وبين أولئك الغوغائيين عالي الصوت والأبعد إستحقاقاً للتكريم والوفاء والإحتفاء، حتى المدعين بأنهم طليعة تقدمية هم أبعد ما يكونوا كذلك، فالشخص التقدمي يجب عليه أن يلتزم بحد أدنى من القيم الأخلاقية والإنسانية، وهو ما ليس متوفراً لدى طلائعنا المدعية التقدم والإستنارة.

ولد العظيم محمد إبراهيم عبده كبج في العام 1939م في حي العبابدة بأمدرمان وتلقى تعليمه في مدارسها المختلفة حتى إلتحاقه بجامعة الخرطوم أواخر الخمسينيات من القرن الماضي.

في أوائل الستينات توجه الشاب محمد إبراهيم عبده كبج نحو محطة الوطن الكبير عطبرة والتي كانت حينها تفيض نشاطاً ونضالاً ضد ديكتاتورية عبود، قادماً من العاصمة الوطنية أمدرمان حاملاً قيمها وتراثها، مبعوثاً لإستكمال فترة دراسته التطبيقية في كلية الهندسة جامعة الخرطوم ولكنه ما أن وصل هناك حتى ركل ذلك الترف في سبيل التصدي لبناء الوطن محترفاً العمل السياسي كمتفرغ في صفوف الحزب الشيوعي السوداني الذي كان منارة من منارات التقدم والعمل الوطني في ذلك الوقت أو هكذا بدأ للجميع حينها، ومن ثم سافر في مهمة عمل سرية للأبيض ومكث هناك عامان يعمل متخفياً لدعم الثورة التي كانت تتشكل وتنضج، قبض عليه هناك وقدم لمحاكمة عسكرية هو وآخرين وحكم عليه بالسجن (6) سنوات وخرج في أعقاب ثورة أكتوبرالمجيدة، وعاد لعطبرة والتي عاش فيها بتواضع ونكران ذات وإستطاع بشخصيته المميزة أن يخلق علاقات عميقة مميزة وممتدة وأضحى أحد أبناء عطبرة الأصيليين، وإستطاع تحقيق إختراقات سياسية كبيرة أهلته ليصبح عضو لجنة مركزية وسكرتيرأً للإقليم الشمالي ومرشحاً في الديمقراطية الثانية لعضوية البرلمان والتي لم يتوج لها للأسف وخسر الوطن إمكانيات هائلة.

كان كبج أحد أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الثلاثة عشر الذين وصفتهم الآلة الإعلامية للحزب في العام 1970م وما تلاه من أعوام بأنهم إنقساميين تصفويين وبأنهم يمثلون الجناح اليميني في محاولة لإضفاء هذه الصفات على الحدث الذي وقع حينها والذي قسم الحزب إلى نصفين تماماً في ما عرف بإنقسام 70، (بل أن هناك حسب شهود معاصرين من كان في صف المجموعة قائدة الصراع والمعركة – من أعضاء اللجنة المركزية ذاتها - التي هدفت للخروج بالحزب من سيطرة الرجل الواحد والأيدلوجيا الصماء لرحاب المشروع الوطني التقدمي ولكن يبدو أنهم كانت لهم حسابات أخرى منعتهم من الإصطفاف والجهر بما يعتقدون) ذلك الإنقسام الذي كانت طبيعته ومنطلقاته فكرية ومنهجية محضة وليست من أجل السلطة كما سوقت مجموعة عبدالخالق بعد ذلك.

تزوج الراحل كبج من الأستاذة العظيمة/ آسيا في العام 1968م وقد كان والدها ملاحظ في السكة حديد في عطبرة وقد إلتقاها كبج هناك في خضم نضاله ونضالها كنقابية من أجل سودان متقدم وحر وديمقراطي، تصف السيدة/ آسيا مراسم زواجهما في عطبرة بأنها كانت أشبه بالمهرجان الضخم والكبير. ظلت السيدة/ آسيا مؤازة قوية للعظيم كبج حتى وفاته الفاجعة في 8 أبريل 2022م.

في العام 1972م أنتقل كبج وأسرته للعيش في أمدرمان مودعاً عطبرة وقد عمل بعد عودته لأمدرمان في شركة المحور برفقة د. حسن أحمد سليمان وسرعان ما حقق الكثير من النجاحات والإنجازات في العمل التجاري وأصبح شريكاً لـ د.حسن، وقد قال حينها لزوجته الفضلى الأستاذة آسيا: (إشتغلت من أجل العمال في عطبرة..) وقد كان ما قال فقد أشتهر بإنفاقه اللامحدود على العمل السياسي والنضال والعمال حتى وصل درجة أن خصص لعمال السكة حديد المفصولين في أوائل عهد الإنقاذ مرتبات شهرية منتظمة لمساعدتهم ودعمهم بعد أن فقدوا وظائفهم نتيجة مواقفهم السياسية والوطنية والمهنية.

تميز الراحل كبج في عمله التجاري مبتكراً في سوق الصادرات ومؤسساً للعديد من المشاريع والشركات والتي أبرزها حتى الآن شركة نيوتك وغيرها من الشركات التي وهبها لأصدقائه وتلامذته بالمجان ودون مقابل وكم من السيارات والممتلكات التي وهبها كبج لأصدقاء وموظفين عملوا معه، لقد كان كبج نموذج يصعب تكراره في التعامل مع المال وإنفاقه، فقد حكى لي الراحل العظيم تاج السر مكي كيف أن كبج كان مكتبه مفتوحاً لكل من يطلب المساعدة أو الدعم السياسي وقد كان مكتبه مثل عيادات الأطباء المجانية، مكتظ دوما بطلاب الحاجة والنقابيين والأصدقاء. وحكى لي أيضاً أحد من عمل لديه أنه كان يأتي للمكتب محمل بالأموال وفي نهاية اليوم يطلب منهم إعطائه حق البنزين... فأي رجل كان هذا الكبج المنفق بلا حدود أو سقوف…!!

كان الراحل مهتماً بالبحث العلمي ممولاً ومجرياً للكثير من الأبحاث في المجال الزراعي والإقتصادي. وقد دعم حتى دول جارة كأرتريا في ثوراتها ونضالها. وهو أحد مؤسسي الصرح الأهلي المعروف بجامعة أمدرمان الأهلية.

كان الراحل خبيراً إقتصادياً عظيماً تناول القضايا الإقتصادية بطرق مبتكرة ودقة أرقام وأبحاث أدهشت حتى أعدائه الإنقاذيين وقد نازلهم في عدة مؤتمرات عقدوها وكان يتميز بأنه بغض النظر عن الجهة القائمة بأمر أي فعالية فهو كان يشارك مقدماً حججه وإسهاماته البحثية بشجاعة وقوة. له العديد من المؤلفات والمقالات المنشورة في الإقتصاد والسياسة وله كتاب كان قيد الإعداد عن ثلاثون عاماً من إقتصاد الإنقاذ وحال تدهور صحته عن إكماله.

ولا نملك إلا أن نردد مع الشاعر التجاني حاج موسى:

 ابوي يا فارس الحوبه .. دخر السنين لينا
أكان للكرم والجود ضيف الهجعه عشينه
ويا الفاتت فضايله حدود يتيم الحله ربيناه
يا الضل الضليل ممدود عنوان الكرم بيته
يا ركازة المسنود فيضك ديمه ساقينا
ظاهر جوه وسط الناس يضوي فوق جبينه صلاح
قاهر في وشي الفراس مرنا ما بيعقبوا الراح
علما بحره ما بينقاس موشح بالفضيله سلاح
سيرتك باقيه لينا الساس وخالد للابد فينا

الا رحم الله العظيم الأستاذ والعم/ كبج بقدر ما قدم للوطن وقضاياه ومواطنيه وللإستنارة والتقدمية.

محمد عمر محمدالخير

الأربعاء 25 مايو 2022م

 


أضواء على ضلالات دعاة الحرب ومناصري الجيش

أكدت هذه الحرب بما لا يدع مجالاً للشك أن أزمة السودان تكمن في المقام الأول في نخبه ومتعلميه (الذين يتركز تعليم أغلبهم في إكتساب المهارات وا...