كنت في السنوات العديدة السابقة وحتى فيما بعد إندلاع أحداث ثورة ديسمبر المجيدة (فهي محطة مهمة ومفصلية في مسار الثورة السودانية المندلعة منذ أكثر من قرن من الزمان، أكثر من نصفها هي مد وسعي للتقدم والإنعتاق الحر) أمر بحالات إكتئاب مظلمة وقميئة أو كما وصفه تشرشل بـ "الكلب الأسود"، وقد كان خير مؤازر ومذكرلي هو الصديق العزيز "عادل بدر" الذي كان لا يفتأ يذكرني بأستاذنا الراحل العظيم/ تاج السر مكي وبأنه كان رجل لا يأتيه اليأس ولا القنوط لا من خلفه ولا من أمامه وهي - في تقديري - حصانة لا يستطيع إكتسابها الجميع بنفس القوة والثبات اللذان تمتع بهما عزيزنا الراحل/ السر، ويسهب الصديق "عادل" بأن أستاذنا كان شخصاً متفائلاً وواثقاً من مقدرات وأصالة معدن الشعب السوداني. وبالتأكيد فإن هذه الروح والقناعة في تقديري لا تًبدُر إلا من شخص عالي الذكاء، عميق التفكير والتدبر والإستقراء وعظيم المشاعر الإنسانية النبيلة، وكلها إجتمعت في راحلنا المقيم/ السر وفي رجال عظماء آخرين أذكر منهم أعمامنا وأساتذتنا صالح عركي صالح، محمد إبراهيم عبده (كبج)، فيصل مسلم ، محمد علي محسي وحسبو إبراهيم وآخرين ممن لم تسع الذاكرة لذكرهم، رحم الله من رحل منهم ومتع من على قيد الحياة بالصحة والعافية لمواصلة مشوار المد الإنساني العظيم.
هذه المقدمة
المغزى وراءها أن تكون خلفية للحديث عن واقع حال الثورة السودانية ومستقبلها. وهو
مستقبل واعد رغم ما يحف الطريق من عقبات وضباب، فالتاريخ يحكي ويؤكد مقولة الشاعر
التونسي العظيم أبوالقاسم الشابي بأن:
إِذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياةَ فلا
بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ
ولا بُدَّ للَّيْلِ أنْ ينجلي ولا بُدَّ للقيدِ أن يَنْكَسِرْ
ومَن لم يعانقْهُ شَوْقُ الحياةِ
تَبَخَّرَ في جَوِّها واندَثَرْ
فويلٌ لمَنْ لم تَشُقْهُ الحياةُ
من
صَفْعَةِ العَدَمِ المنتصرْ
كذلك قالتْ ليَ الكائناتُ وحدَّثَني روحُها المُستَتِرْ
ودَمْدَمَتِ الرِّيحُ بَيْنَ الفِجاجِ وفوقَ
الجبالِ وتحتَ الشَّجرْ
إِذا مَا طَمحْتُ إلى غايةٍ رَكِبتُ
المنى ونَسيتُ الحَذرْ
ولم أتجنَّبْ وُعورَ الشِّعابِ
ولا كُبَّةَ اللَّهَبِ المُستَعِرْ
ومن لا يحبُّ صُعودَ الجبالِ
يَعِشْ
أبَدَ الدَّهرِ بَيْنَ الحُفَرْ
******
وأُعْلِنَ في الكونِ أنَّ الطّموحَ لهيبُ
الحَيَاةِ ورُوحُ الظَّفَرْ
إِذا طَمَحَتْ للحَياةِ النُّفوسُ فلا بُدَّ أنْ يستجيبَ القَدَرْ
وعطفاً على هذه الأبيات المجيدة وبنظرة عامة نجد
أن أعداد من يلتفون حول الثورة اليوم أضعاف الأعداد في كل تاريخنا النضالي وإن أهم
عنصر وهو تنامي الوعي قد توطد عبر توسع منصات الوعي الشعبي أكثر من أي وقت مضى .
وفي سبيل تحقيق أهداف وتطلعات الشعب السوداني في
بناء دولة الحرية والسلام والعدالة والمؤسسات قبل كل ذلك، فإننا نحتاج إلى التأسيس
السليم والصحيح لتنظيمات سياسية ضاربة الجذور في المجتمع وعلى أسس تتنافى كلياً
وأسس التنظيمات التي ولدت طوال تاريخنا السياسي الحديث. وذلك لا يتأتى إلا بعزيمة
وإيمان كوادر نوعية شديدة الوفاء لقضية الوطن، وتتمتع بإخلاق ومقدرات وآفاق عالية
للغاية.
أخيراً، إن ما حدث في أكتوبر 2021 والذي أطلق عليه "القحاته" بالإنقلاب، إنما هو إنقلاب ضد القحاته.
أما من وجهة نظرنا نحن كثوار فإن ما حدث ليس سوى فصل جديد من فصول الإنقلاب على الثورة السودانية الذي قادته "قحت" (التي تمثل الوكيل الحصري لجميع المشاريع المعادية لمصالح الشعب السوداني) نفسها بإتفاقها الهزيل مع لجنة البشير الأمنية والتي وراءها كانت وما زالت دول مثلث المحور الخليجي. إن أهم نقطة يجب الوقوف عندها ومن ثم الإنطلاق مره أخرى هي أن جميع التنظيمات السياسية الموجودة في الساحة السودانية الآن بإستثناء "حركة جيش تحرير السودان – جناح عبدالواحد محمد أحمد النور" غير مؤهلة للمضي بالسودان قيد أُنمله. بهذا الشكل وإنطلاقاً من هذا الصياغ يجب التعامل مع المشهد السياسي السوداني حتى ننطلق من رؤية وأساس سليم ودقيق.
محمد عمر محمدالخير
في الجمعة 09 سبتمبر 2022م